عبد الرحمن الغافقي (بطل معركة بلاط الشهداء) [2]
ولم يكن قادتهم أقل ثقة منهم بالنصر بعد أن ثَمِلُوا بحُمَيَّا الظَّفر ...
واختالوا بتلك القوة القوية التي لا يقف أمامها شيء ....
وأيقنوا أن جيوشهم لا يُمكن أن يُــلِــم بها الكَلال ...
فهي دائماً فتــيَّــةٌ مَشبوبةٌ كما انطلقت أول مرة ...
وآمنوا بأنها حيثما تحركت مشى في ركابها النصر والغلب ....
وأنها ستندفع دائماً إلى الأمام ....
حتى يُصبح الغرب المغلوب كالشرق ....
يُطَأْطىء الرَّأس إجلالاً لاسم مُحمد ...
وحتى ينهض الحاج من أقاصي المتجمد ...
إلى أن يطأ بأقدام الإيمان الرِّمال المُحْرقة ....
المنتثرة على صحراء العرب ....
ويقف فوق صخور مكة الصَّلْدة .... )
* * *
لم تكن أيها الشاعر بعيداً عن الحقيقة .
أو هائماً في أودية الخيال في كثير مما قلت .
فقد كانت الجيوش التـي قادها المجاهدون لإخراج آبائِك من جاهليتهم الجهلاء كما وَصَفْتَ ...
ففيها عرب أقوياءُ بالله هَبُّوا إليكم .
من الشام ...
من الحجاز ...
من نجد ...
من اليمن ...
من كل مكان من جزيرة العرب ...
كما تَهُبُّ الريحُ المرسلة .
وفيها بربر أَعِزَةٌ بالإسلام تدفقوا عليكم من فوق جبال الأطلس كما يتدَّفق السيل العَرِم ..
وفيها فُرسٌ عافت عقولهم وثنية الأكاسرة ، وفاءت إلى دين التوحيد ...
وصراط العزيز الحميد .
وفيها رومٌ خوارج ، كما قلت ...
ولكنهم خرجوا على الظلم ، والظلمات ...
وانحازوا إلى نور السماوات والأرض ...
وهُدُوا إلى دين القيِّمة .
وفيها قِبْطٌ رَفَعوا عن رِقَابِهِمْ نِــيــرَ العُبُودِيَّــةِ لِلْقَــيَـــاصِـــرَة .
ليعيشوا كما ولدتهم أمهاتهم أحراراً في أكناف الإسلام ....
نعم ... لقد كان الجيش الذي قاده عبد الرحمن الغافقي وأسلافه لإنقاذ أجدادك من الجاهلية ... فيه الأبيض والأسود ، والعربي والأعجميُّ .
لكنهم انصهروا جميعاً في بوتقة الإسلام ...
فأصبحوا بنعمة الله إخواناً .
وقد كان هَمُّهُمْ - كما ذكرت - أن يُدْخِلُوا الغرب في دين الله كما أدخلوا الشرق من قبل ...
وأن يجعلوا البشرية كُلَّها تُطأطىء الرَّأس لإله الناس .
وأن يعُم نور الإسلام بِــطَـــاحكم وأوديتكم .
وأن تشرق شمسه في كل بيت من بيوتكم .
وأن يُسَـــوِّي عدْله بين مُلُوكم وسُوقَتِكُمْ .
وكانوا قد عزموا على أن يدفعوا أرواحهم ثمناً لهدايتكم إلى الله ...
وإنقاذكم من النار ....
* * *
وبعد .... فإليكم القصة الأخيرة لهذا الجيش .
وخبر بطله الفذِّ عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي .
تناهت إلى " دوق أُكتَانْية " الأخبار المفزعة عن مصرع صِهره عثمان بن أبي نُسعة .
وبلغته أنباء النهاية الحزينة التي صارت إليها ابنته الحسناء " مينين " ....
فأدرك أن طبول الحرب قد دَقَّتْ ...
وأيقن أن أسد الإسلام عبد الرحمن الغافقي مُمْسِ في دياره ، أو مُصْبِح ....
فتأهبَّ للدفاع عن كل شبر من أرضه دفاع المستميت .
واستعدَّ للنِّضال دون نفسه ومملكته ، استعداد المُسْتَبْسِل ...
فقد كان يخشى أن يُساق هو الآخر أسيراً إلى دار الخلافة في الشام كما سيقت ابنتُهُ .
أو أن يُحمل رأسه على طبق ، ويُطاف به في أسواق دمشق كما طِيفَ برأس " لُذَرِيقَ " ملك أسبانيا من قبل .
* * *
لم يُكذَِّب عبد الرحمن الغافقي ظنَّ الدُّوق ...
فانطلق بجيشه اللجب من شمال الأندلس كما ينطلق الإعصار .
وانصبَّ على جنوب فرنسا من فوق جبال " البِرِنِيهْ " كما يَنْصَبُّ السيل .
وكانت عِدَّةُ جيشه مائة ألف مجاهد .
بين جوانح كل منهم قلب أسد ....
وفي عُرُوقِهِ عزمَةُ مارد ...
* * *
يَمَّمَ الجيش الإسلامي وجْهه شطر مدينة " آرل " [ Arles: مدينة في جنوب فرنسا على نهر الرون شمالي مرسيليا] الواقعة على ضفاف نهر " الرُّون "
فلقد كان له معها حساب ...
ذلك أنَّ " آرل " هذه كانت قد صالحت المسلمين على أن تدفع لهم الجزية .
فلمَّا استشهد ( السمح بن مالك الخولانيُّ ) في معركة " تولوز " [Toulouse : مدينة في جنوب فرنسا على نهر الغارون وهي قاعدة محافظة غارون العليا ] وتضعضع المسلمون لمصرعه ، نبذ أهل " آرل " الطاعة ، ونكثوا العهد ، وامتنعوا عن دفع الجزية .
ولمَّا بلغ عبد الرحمن الغافقي ضواحي المدينة ، وجد أنَّ " أَودَ " " دُوقَ أكتانية " قد عبأ قواته الكثيفة عندها .
وَحَشَدَهَا حول تُخُومها ...
وتصَّدى لرد الزحف الإسلامي عليها ...
ثُمَّ ما لبث أن التقى الجيشان وجهاً لوجه .
ودارت بين الفريقين معركة طَحُونٌ ...
قذَفَ خلالها عبد الرحمن الغافقي بكتائب من جيشه تُحِبُّ الموت أكثر ممَّا يُحبُّ أعداؤها الحياة ، فزلزل أقدام العدو .... ومزَّقَ صُفُوفَهُ ...
ودخل المدينة في هذه المرّة حرباً ...
فأعمل السيف في رقاب أهلها ..
وأثخن فيهم إثخاناً ..
وغنم منهم غنائم عزَّت على الحصر ..
أما الدوق " أود " فقد فرَّ بمن بقي حيّاً من جنوده ...
وطفق يُعِدُّ العُدة للقاء آخر من جيوش المسلمين ..
فقد كان يعلم أن معركة " آرل " كانت بداية الطريق ، وليست نهايته .
* * *
عَـبَــرَ عبدُ الرحمن الغافقي بجيشه الجرَّار نهر " الجارون " ، وطفقت كتائبه الظافرة تجُوسُ مقاطعة أوكتانية ذات اليمين ، وذات الشمال .
وأخذت المدن والقرى تتساقط تحت سنابك خيْله كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف إذا هبَّتْ عليها الرياح الهُوجُ .
وأضاف المسلمون إلى غنائمهم السابقة غنائم لاحقة لم ترها عيْنٌ من قبل ...
ولم تسمع بها أُذُنٌ ...
وقد حاول دوق " أُكتانية " أن يتصدى لهذا الزحف الكبير مرة أخرى فاشتبك مع المسلمين في معركة ضروس .
لكنَّ المسلمين ما لبثوا أن هزموه هزيمة طاحنة ...
وأنزلوا به نكبة ساحقة مُدَمِّرة ...
ومزَّقوا جيشه شر ممزَّق ...
وتركوا جيشه بين قتيل ، وأسير ، وهَزِيم ..
* * *
ثم اتجه المسلمون إلى مدينة " بوردو " كبرى المدن الإفرنسية آنذاك ، وعاصمة مقاطعة " أُكتانية " .
وخاضوا مع أميرها معركة لا تقل هوْلاً عن المعارك السابقة ...
استبسل فيها المهاجمون والمدافعون استبسالاً يُثير العجب والإعجاب ...
لكنَّ المدينة الكبيرة الخطيرة ما لبثت أن سقطت في أيدي المسلمين كما سقطت أخواتُها من قبل .
وما لبث أميرها أن قُتل في جملة القتلى .
وأحرز المسلمون من غنائم " بوردو " ما هَوَّن في أعينهم كل ما أحرزوه من غنائم .
وقد كان سقوط " بوردو " في أيدي المسلمين فاتحةً لسقوط مدن أخرى كثيرة خطيرة .
أهمُّها " ليون " و " بيزانسُون " و " سانس SENS " .
* * *
اهتزَّت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها لِسُقُوط نصف فرنسا الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر ....
وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم .
ودبَّ الصريخ في كل مكان يدعو العجزة والقادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهوْل القادم من الشَّرق .
ويَحُضُّهُمْ على التَّصَدِّي له بالصدور إذا عزَّت السيوف .
ويدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العَــتَاد ..
فاستجابت أوروبا لدعوة الدَّاعي ..
وأقبل الناس على الانضواء تحت لواء " شارل مارتل " ومعهم الشَّجر ، والحَجَر ، والشَّوك ، والسِّلاح .
* * *
كان الجيش الإسلامي آنذاك قدْ بلغ مدينة " تُورَ TOURS " طليعةَ مدنِ فرنسا وَفْرَةً في السكان ، وقُوَّةً في البُنْيَان ، وعراقة في التَّاريخ ....
وكانت المدينة - فوق ذلك - تختال على أكثر مدن " أوروبا " بكنيستها الفخْمة ، الضخمة ، العامرة بجليل الأعلاق [الآثار القديمة ، النفيسة الثمينة ] ، وكريم النَّفائس .
فأحاط بها المسلمون إحاطة الغُلِّ بالعُنُق ....
وانصبُّوا عليها انْصباب المنون إذا جاء الأجل ...
واسترخصوا في سبيل افتتاحها الأرواح والمُهَج ...
فما لبثت أن سقطت بين أيديهم على مرأى " شارل مارتل " وَمَسْمَعِه ....
* * *
وفي العشر الأخير من شهر شعبان سنة أربعٍ ومائة للهجرة ، زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه اللجب على مدينة " بُوَاتْييه POITIERS " ..
وهناك التقى مع جيوش أوروبا الجرَّارَة بقيادة " شارل مارتل " ..
ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المُسلمين والفِرنجة فحسب ..
وإنما في تاريخ البشريَّة كُلِّها .
وقد عُرِفَتْ هذه المعركة بمعركة ( بَلاطِ الشُّهَدَاءِ ) .
* * *
كان الجيش الإسلامي يومئذ في ذروة انتصاراته الباهرة .
لكنَّ كاهله كان مُثقلاً بتلك الغنائم التي انْصبَّت عليه انصِباب الغيْث ....
وتكدَّست في أيدي جُنُوده تكدُّس السُّحب ...
وقد نظر عبد الرحمن الغافقي إلى هذه الثروة الطائلة الهائلة نظرة قلق وإشفاقٍ .
وتوجَّس منها خيفةً على المسلمين .
فقد كان لا يأمن أن تَشْغَلَ هذه النَّفائس قُلُوبَهم عند اللِّقاء ..
وأن توزِّع نفوسهم في لحظات البأس ...
وأن تجعل إحدى عيْني الواحد منهم على العدو المُقبل عليه ...
وعيْنه الأخرى على الغنائم التي في يديه ...
ولقد همَّ بأن يأمر جُنُودَه بالتَّخلص من هذه الثروات الطائلة الهائلة ...
ولكنَّه خشي ألَّا تطيب قلوبهم بذلك القرار الخطير ....
وألَّا تسمح نُفُوسهم بالتَّخلي عن هذا الكنز الثمين .
فلم يجد وسيلة خيراً من أن يجمع هذه الغنائم في مخيمات خاصَّة ...
وأن يجعلها وراء المُعسكر قبل إنشاب القتال [إثارة الحرب] .
* * *
وقف الجيشان الكبيران بضعة أيام كلٌّ منهما قُبَالة الآخر في سكون ، وتَرَقُّب وصمت ، كما تقف سلسلتان من الجبال إحداهما في وجْه الأُخرى ...
فقد كان كلٌّ من الجيشين يخشى بأس عدُوِّه ، ويحسبُ للقائِهِ ألْف حِسَاب .
فلمَّا طال الوقت على هذه الحال ، ووجد عبد الرحمن الغافقي مراجل الحمِيَّة والإقدام تغلي في صدور رجاله ، آثر أن يكون هو البادىء بالهجوم مُعْتمداً على مناقب جُنْدِهِ [مزاياهم وخصائصهم] ...
مُتفائلاً بحُسْن طالعه في النَّصر